لفت انتباه الناس ما أورده الإعلام الرسمي وشبه الرسمي عن حادثة الّرَّوْحِيّة من ولاية سليانة (اشتباه، اشتباك، قتل متبادل، وفرار أحد المشتبه بهم)، واللافت هو التركيز على الخبر إلى حدّ التضخيم، وما تبع ذلك من تعليقات مثيرة. ونحن نلاحظ في هذا الصّدد الآتي:
1- لقد نبّهنا إلى خطورة العمل المادّيّ (العنف بأنواعه) بين أبناء الأمة، لأنّه استحلال للدم الحرام من غير موجب، وهو استهداف لأبنائنا الأبرار في الجيش على الرغم من أنهم ليسوا عدوّا لنا نقاتله بل هم من الأمّة وللأمة، ولا يجوز التعرّض لهم بالأذى والقتل، ولأنّ العنف مقتلٌ للعمل السياسيّ فضلا عن العمل الفكريّ الذي لا تقدر عليه كثير من الأطراف ولا تريده، ولأنّ العنف أيضاً، ولا سيّما المسلّح منه، مرتعٌ للمخابرات المحلّيّة والعالميّة؛ فمن خلاله تثبت مشاريعها وتحقق أهدافها.
2- إنّ للمخابرات في تونس في عهد ابن عليّ وفي الجزائر وفي مصر من الفضائح ما جعلها تقوم بأعمال قذرة كل القذارة دون مبالاة بأرواح الناس، ومن تلك الأعمال تفجيرات الساحل التي أشرف عليها ابن علي، وأقام عليها الدنيا ولم يقعدها، واصطف ضعاف الفكر والأقلام حينها خلفه يساندون ويهيّجون، عن علمٍ أو بدون علم، لأهداف النظام من هذه الأفعال الاجرامية، ومنها وصول ابن علي إلى السلطة.
3- الرواية مهتزة متناقضة تدعو إلى الريبة، وهي على قاعدة (إذا أردت أن تخفي الحقيقة فقل نصفها)...؛ فالاشتباك حصل فعلا، ولكن بعد أن قيل أن لهجة المشبوهين غير تونسية صارت هويتهم تونسية!! وكيف وقع التعرف على هويتهم بسرعة وبذاك اليقين..!! وقد أكد شهود عيان أن لا وجود لثالث فارٍّ، وأكّد ذلك رئيس مركز الحرس الوطني في الجهة.. وإن كان فارّا فكيف وقع التعرف عليه؟ !! إنّها تناقضات لا تطمئن. وهي تجعل الخبر محلّ فحصٍ وتثبّت وتفكير.
4- لماذا لم توضع فرَضيّة المخابرات في الدول المجاورة التي تتربّص بالثورة في تونس كلّ الشّرّ؟ لأنّها لا تريدها نموذجا ناجحا قابلا للتقليد، بل تريدها نموذجا فاشلا لا يُفضي إلى تغيير حقيقي، وهناك أحداث كثيرة دعمت هذا السياق، من ذلك السيارة المشبوهة في جربة والمسلحون في تطاوين الخ.. أضف إلى ذلك أنّ المخابرات الجزائرية تورّطت إلى الأذقان مع القذافي ودعمته بالمرتزقة بشهادة الجميع !!!وهذا كلّه يتقاطع مع إرادة جهات في النّظام أن لا يحدث التغيير الحقيقي فيلتقيَ بذلك مكرُ الخارج والداخل على أمرٍ قد دُبّر.
5- لقد وقعت في تونس أعمال إرهابية وصلت حدَّ الرعب من جهات مشبوهة وظَّفت أموالا ضخمة فروّعت الناس وقتّلت وحرقت.. قيل هم أعداء الثورة، فلماذا لم يبرزوا ولم تتابع قضيتهم إعلاميا، وهم فعلا أعداء الشعب، ومن بينهم من تتحكم فيهم زوجة الرئيس المخلوع! ثم كيف أصبح السجناء أسوداً يدمرون السجون.. ويخرجون بالمئات بين عشية وضحاها ولا رقيب ولا حسيب.. إنه أمر يدعو إلى الريبة. هناك جهات تمسك بورقة الأمن تساوم به الشعب، تُهوّل حيث تريد وتهوّن حيث تريد.
6- ندعو الجميع، والمخلصين خاصّة، إلى الصّدق والرشد.. فحرام على بعض الجهات الأمنية هذا التوظيف بهذه الصورة، وهي في الأصل المؤتمنة على أرواح الناس وأرزاقهم وأعراضهم، وحرام على بعض الجهات الإعلامية الانسياق الأعمى دون تحفظ أو مساءلة، كأننا في عهد (المجاهد الأكبر) أو (صانع التغيير) والأصل في الإعلام الكشف والمحاسبة وتحري الحق والحقيقة. والناس ولا سيما الشباب يتوقعون غير ذلك، فالوعي قد دبّ فيهم إلى درجة لا يقبلون معها الزَّيف والتلفيق والإعلام المصنع المفتعل.
7- إنّ في الرّعب الذي أحلّته جهاتٌ محليةٌ بالبلد والذي يصل حدّ الحرابة، وفيما قد تخطّط له أو تفعله جهات خارجية، إجراميْن، الأول: إفشاء القتل بين أبناء البلد الآمنين، والثاني: خدمة جهات خارجية استعمارية، ممّا يُوجب شرعا ردع الجناة بأحكام قاسية. حسب قول اللطيف الخبير: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، والإجرام الأكبر قبل ذلك وبعده هو المتاجرة بأمن الناس وفق حسابات سياسية دنيئة.
وعليه فالدولة ملزمة بكشف من وراء كل هذه الأحداث ومحاسبتهم بشدّة، والأمّة لم تعد تقبل الكذب وإثارة أعمال وإلصاقها بالناس من غير دليل، بل تريد الحقيقة جليّةً واضحة لتظهر للناس، وإن لم تفعل الدولة ذلك فهي متهمة بأنها وراء إثارة هذه الأحداث بنفسها أو بالتعاون مع جهات خارجية. أو أنها لا تريد إيقافها؛ لأنها تستفيد من استعارها وعلوّ نارها. وعندها فالأمة مدعوّة لأن تستمر في جُهدها حتى تحدث التغيير الحقيقي الذي يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض. وتخرج من فسق المترفين الذين هم أسّ الفساد في الأرض مصداقا لقول الله: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)